فصل: ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعه جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علـي بـن مالـك بـن سالـم بـن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كلاب وأحضروه إلى نور الدين محمود واجتهد به على تسليمهـا فلـم يفعـل فأرسـل عسكـراً مقدمهـم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة بأعمالها والملوحة من بلـد حلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة‏.‏

ذكر ملك أسد الدين شيركوه مصر وقتل شاور ثم ملك صلاح الدين وهو ابتداء الدولة الأيوبية‏.‏

في هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى دار مصر ومعه العساكـر النورية وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية وتحكمهم على المسلمين بها حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحاصروها فأحرق شاور مدينة مصر خوفاً من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به وأرسل في الكتب شعور النساء وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم فحمل إليهم مائة ألف دينار وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال وحمله فرحلوا فجهز نور الدين العسكر مع شيركوه وأنفق فيهم المال وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه ‏(‏وعسـى أن تكرهـوا شيئـاً وهـو خيـر لكـم وعسـى أن تحبـوا شيئـاً وهـو شـر لكم‏)‏ ‏(‏البقرة 216‏)‏ ولما قارب شيركوه مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم فكان هذا لمصر فتحاً جديداً ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر واجتمع بالعاضد وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية وأجرى عليه وعلى عسكره الإقامات الوافـرة وشرع شاور يماطل شيركوه فيما بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له ومـع ذلـك فكـان شـاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه ويعده ويمنيه ‏(‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏)‏ ‏(‏النساء 120‏)‏ ثم إن شاور عزم على أن يعمـل دعـوة لشيركـوه وأمرائـه ويقبـض عليهـم فمنعه ابنه الكامل ابن شاور من ذلك ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على الفتك بشاور واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعـز الديـن جرديـك وغيرهمـا‏.‏

وعرفـوا شيركـوه بذلـك فنهاهـم عنـه واتفـق أن شـاور قصـد شيركـوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي فلقي صلاح الدين وجرديق شاور وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي فساروا جميعـاً إلـى شيركـوه فوثـب صلـاح الديـن وجرديـك ومـن معهمـا علـى شـاور وألقـوه إلى الأرض عن فرسه وأمسكوه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة أعني سنة أربـع وستيـن وخمسمائـة فهـرب أصحابه عنه وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك‏.‏

وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد دخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد فخلع عليه العاضـد خلـع الـوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور واستقـر فـي الأمـر وكتـب لـه منشـور بالإنشاء الفاضلي أوله بعد البسملة‏:‏ من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأئمة مجير الأمة أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته‏.‏

سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلـي علـى محمـد خاتـم النبييـن وسيـد المرسليـن وعلـى آلـه الطاهريـن والأئمـة المهدييـن سلـم تسليمـاً‏.‏

ثـم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا أضربنا عنها للاختصار وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلاً لحملها فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتـك إلـى بنـوة النبـرة مدحـت الشعـراء أسـد الديـن ووصـل إليـه مـن الشـام مديـح لعماد الكاتب قصيدة أولها‏:‏ بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب كم راحة جنيت من دوحة التعب يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من نادي فعرف خير ابن لخيـر أب جرى الملوك وما حازوا بركضهم من المدى في العلى ما حزت بالخبب تمل من ملك مصر رتبة قصرت عنها الملوك فطالت سائر الرتب قد أمكنت أسد الدين الفريسة من فتح البلاد فبادر نحوها وثـب لقد فاز بالملـك العقيـم خليفـة له شيركوه العاضدي وزير هو الأسد الضاري الذي جل خطبه وشـاور كلـب للرجال عقور بغى وطغى حتى لقد قال صحبه علـى مثلهـا كـان اللعيـن يـدور فـلا رحـم الرحمن تربة قبره ولا زال فيها منكـر ونكيـر وأما الكامل بن شاور فلما قتل أبوه دخل القصر فكان آخر العهد به ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله ‏(‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة‏)‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 144‏)‏ وتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

فكانت ولايته شهرين وخمسـة أيام وكان شيركوه وأيوب ابني شاذي من بلد دوين قال ابن الأثير‏:‏ وأصلهما من الأكراد الروادية فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد وكان أيوب أكبر من شيركوه فجعله بهروز مستحفظاً لقلعة تكريت ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة ومر على تكريت خدمه أيوب وشيركوه ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت فأخرجهما بهـروز مـن تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة ولما ملك عماد الدين زنكي قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً لها ولما حاصره عسكـر دمشـق بعـد موت زنكي سلمها أيوب إليهم على إقطاع كبير شرطوه له وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق وبقي شيركوه مع نور الدين محمـود بعـد قتـل أبيـه زنكـي وأقطعـه نـور الديـن حمـص والرحبة لما رأى من شجاعته وزاده عليهما وجعله مقـدم عسكـره فلمـا أراد نـور الديـن ملـك دمشق أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق وبقيا مـع نـور الديـن إلـى أن أرسـل شيركـوه إلـى مصـر مـرة بعـد أخـرى حتـى ملكهـا وتوفـي فيهـا في هذه السنة علـى مـا ذكرنـاه ولمـا توفي شيركوه كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي وكان قد سار معه على كره قال صلاح الدين‏:‏ أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه وكان قد قال شيركوه بحضرته لي‏:‏ تجهز يا يوسف للمسير فقلت‏:‏ والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية مـا لا أنسـاه أبـداً فقـال لنـور الديـن لا بـد مـن مسيـره معـي فأمرنـي نور الدين وأنا أستقيل‏.‏

فقال نور الدين‏:‏ لا بد من مسيرك مع عمك‏.‏

فشكوت الضائقة فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أنساق إلى الموت فلما مات شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية منهم عين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال المنبجي وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري وشهاب الدين محمود الحارمي وهـو خـال صلـاح الديـن فأرسـل العاضد أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر فلم تطعه الأمراء المذكورون وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكاري فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين ثم قصد الحارمي وقال‏:‏ هذا ابن أختك وعزة وملكه لك فمال إليه أيضاً ثم فعل بالباقين كذلك فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال‏:‏ أنا لا أخدم يوسف وعاد إلى نور الدين بالشام‏.‏

وثبـت قـدم صلـاح الديـن علـى أنـه نائـب لنـور الديـن وكـان نـور الديـن يكاتـب صلـاح الدين بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عـن أن يكتـب اسمـه وكـان لا يفرده بكتاب بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا ثـم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله فأرسلهم إليه نور الدين فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر وتمكن من البلاد وضعـف أمـر العاضـد ولمـا فـوض الأمـر إلـى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص لباس الجد ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى‏.‏

قال ابن الأثير مؤلف الكامل‏:‏ رأيت كثيراً من ابتدى بالملك ينتقل إلى غيره عقبه فإن معاوية تغلـب وملـك فانتقـل الملـك إلـى بنـي مروان ثم ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى أخيه المنصور وعقبه ثم السامانية أول من ابتدى بالملك منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيـل وعقبـه ثـم عماد الدولة بن بوية ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ركن الدولة ثم ملك طغريل بك السلجوقي فانتقل الملك إلى عقب أخيه داود ثم شيركوه ملك فانتقل الملك إلى ابن أخيه ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى أخيه العادل وعقبه ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أولاً وأخذه الملك وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به فيحرم عقبه ذلك‏.‏

ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان فاجتمعـت السودان وهم حفاظ القصر في عدد كثير وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعـة عظيمة بين القصرين انهزم فيها السودان وقتل منهم خلق كثير وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلاً وتهجيجاً وحكم صلاح الدين على القصر وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي وكان خصياً أبيض وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة كان بين إينانج صاحب الري وبين الدكز حرب انتصر فيها الدكز وملك الري وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع فأرسل الدكز ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلـوا إينـاج أستاذهم فقتلوه ولحقوا بالدكز فلم يف لهم وقال‏:‏ مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم فهربوا إلى البلاد ولحق بعضهم وهو الذي قتل أستاذه بخوارزم شاه فصلبه لخيانته أستاذه‏.‏

وفيها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي وكان أحد الزهاد وله كرامات كثيرة كان يتكلم علـى الخاطر وكلامه مجموع مشهور‏.‏

وفيها توفي ياروق أرسلان التركماني وكان مقدماً كبيراً وإليه تنسب الطائفة الياروقية مـن التركمـان وكـان عظيـم الخلقـة يسكـن بظاهـر حلـب وبنـى علـى شاطئ قويق هو وأتباعه عماير كثيرة وتعرف الآن بالياروقية وهي مشهورة هنا‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

فيها سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها وشحنها صلاح الديـن بالرجـال والسلـاح والذخائـر وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة فحصروها خمسين يوماً وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها‏.‏

قال صلاح الدين‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثيـاب وغيرها‏.‏

وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مدة ثم رحل عنه‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام فقام نور الدين في عمارة الأسواق وحفظ البلاد أتم قيام وكذلك خربت بلاد الفرنج فخافوا من نور الديـن واشتغـل كـل منهـم عـن قصـد الآخـر بعمارة ما خرب من بلاده‏.‏

وفيها في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل وكـان مرضه حمى حادة ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود إلى أخيه الذي هو أصغر منه وهو سيف الدين غازي بن مودود فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به وتوفي قطب الدين وعمره أربعين سنة تقريباً وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً‏.‏

وكان من أحسن الملوك سيرة‏.‏

وفي هذه السنة توفي الملك طغريل بك بن قاورت بك صاحب كرمان واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر واستنجد كـل منهـم وطلـب الملـك فاتفـق فـي تلـك المـدة أن أرسلان شاه الأكبر مات فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان‏.‏

وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية رضيع نور الدين وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه فأقر نور الدين أخاه علياً بن الداية على إقطاعه‏.‏

وفيها توفي محمد بن محمد بن ظفر صاحب كتاب سلوان المطاع صنفه لبعض القواد بصقلية سنة أربع وخمسين وخمسمائة وله أيضاً كتاب نجباء الأبناء وشرح مقامـات الحريـري ومولـده بصقلية وتنقل بالبلاد وأقام بمكة شرفها الله تعالى وسكن آخر وقت مدينة حماة وتوفي بها ولم يزل يكابد الفقر حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

وفاة المستنجد خلافة المستضيء وهو ثالث ثلاثينهم‏:‏ فـي هـذه السنـة تاسـع ربيـع الآخـر توفـي المستنجـد باللـه أبـو المظفـر يوسـف بـن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة وكان أسمر تام القامة طويل اللحية وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وقطب الدين قيماز المقتنوي وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد فاتفقا ووضعا الطبيب علـى أن يصـف لـه مـا يهلكـه فوصـف لـه دخـول الحمـام فامتنع منه لضعفه ثم أنه دخلها وغلق عليه الباب فصات ولما مات المستنجد أحضر عضد الدين وقطب الدين المستضيء بأمر الله ابن المستنجد واشترطا عليه شروطاً أن يكون عضد الدين وزيراً وابنـه كمـال الديـن أستـاذ داره وقطـب الديـن أميـر العسكـر فأجابهـم إلـى ذلـك‏.‏

واسـم المستضـيء الحسن وكنيته أبو محمد ولم يل الخلافة من اسمه حسن غير الحسن بن علي المستضيء فبايعوه بالخلافة يوم مات أبوه بيعة خاصة وفي غده بيعة عامة وكان المستنجد ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل وهي بيد ابن أخيه غازي بن مـودود بـن عمـاد الدين زنكي بن أقسنقر فاستولى عليها نور الدين وملكها‏.‏

ولما ملك نور الدين الموصل قرر أمرها وأطلق المكوس منها ثم وهبهـا لابـن أخيـه سيـف الديـن غـازي المذكـور وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مردود وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي فقال كمال الدين الشهرزوري في هذا طريق إلى أذى يحصل للبيت الأتابكي لأن عماد الدين كبير ولا يـرى طاعـة أخيـه سيـف الديـن وسيـف الديـن هـو الملـك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف وتطمع الأعداء‏.‏

وفي هذه السنة سار صلاح الدين عن مصر فغزا بلاد الفرنج قرب عسقلان والرملة وعاد إلى مصر ثم خرج إلى أيلة وحصرها وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي ونقل إليها المراكب وحصرهـا بـراً وبحراً وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر ولما استقر صلاح الدين بمصـر كـان لمصـر دار للشحنـة تسمـى دار المعونـة يحبـس فيهـا فهدمهـا صلـاح الديـن وبناها مدرسة للشافعية وكذلك بنى دار الغزل مدرسة للشافعية وعزل قضاة المصريين وكانوا شيعة ورتب قضاة شافعية وذلك في العشرين من جمادى الآخرة وكذلك اشترى تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازل العز وبناها مدرسة للشافعية‏.‏

وفـي هذه السنة توفي القاضي ابن الخلال من أعيان الكتاب المصريين وفضلائهم وكان صاحب ديوان الإنشاء بها‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

  ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية

في هذه السنة ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله ابن الأميـر يوسـف ابـن الحافـظ لديـن اللـه أبـي الميمـون عبـد المجيد ابن أبي القاسم محمد ولم يل الخلافة ابـن المستنصـر باللـه أبـي تميـم معـد بـن الظاهـر لإعـزاز ديـن اللـه أبـي الحسـن علي ابن الحاكم بأمر الله أبـي علـي المنصـور بـن العزيـز باللـه أبـي منصور ابن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبـي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله أول الخلفاء العلويين من هذا البيت وقد مر ذكرنسبه في ابتداء دولتهم‏.‏

وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أنه لما تمكن صلاح الدين من مصـر وحكـم علـى القصـر وأقـام فيـه قراقـوش الأسدي وكان خصياً أبيض وبلغ نور الدين ذلك أرسل إلى صلاح الدين يأمره حتماً جزمـاً بقطع الخطبة العلوية لا إقامة الخطبة العباسية فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر عليه وكان العاضد قد مرض فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبـوا للمستضـيء ويقطعـوا خطبـة العاضـد فامتثلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته فتوفي العاضد يوم عاشوراء ولـم يعلـم بقطـع خطبتـه ولمـا توفي العاضد جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه وكان كثرته تخرج عن الإحصاء وكان فيه أشياء نفيسة من الأعلاق المثمنة والكتب والتحف فمن ذلك الحبل الياقوت وكان وزنه سبعـة عشـر درهمـاً أو سبعـة عشـر مثقالاً‏.‏

قال ابن الأثير مؤلف الكامل‏:‏ أنا رأيتـه ووزنتـه وممـا حكـي‏:‏ أنـه كـان بالقصـر طبـل للقولنج إذا ضرب الإنسان به ضرط فكسر ولم يعلموا به إلا بعد ذلك ونقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة فباع البعض وعتق البعض ووهب البعض وخلا القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس‏.‏

ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه فلمـا توفـي علـم صدقه فندم لتخلفه عنه وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربع عشرة خليفة المهدي والقائم المنصور والمعز والعزيز والحاكم والطاهر والمستنصـر والمستعلـي والآمـر والحافظ والظافر والفائز والعاضد‏.‏

وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد في هذه السنة أعني سنة سبع وستين وخمسمائة مائتان واثنتان وسبعون سنة تقريباً وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ولم تحل إلا وتمررت ولم تصف إلا وتكدرت بل صفوها لا يخلو من الكدر‏.‏

ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد ضربت لها البشائر عدة أيام وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل وهو من خواص الخدم المقتفوية إلى نور الدين وصلاح الدين والخطباء وسيرت الأعلام السود وكان العاضد المذكور قد رأى في منامه‏:‏ أن عقرباً خرجت من مسجد بمصر معروف ذلك المسجد للعاضد ولدغته فاستيقظ العاضد مرعوباً واستدعى من يعبر الرؤيا وقص ما رآه عليه فعبـره لـه بوصـول أذى إليـه مـن شخـص بذلـك المسجد فتقدم العاضد إلى والي مصر بإحضار مـن بذلـك المسجـد فأحضـر إليـه شخصـاً صوفياً يقال له نجم الدين الخويشاني فاستخبره العاضد عن مقدمه وسبب مقامـه بالمسجـد المذكور فأخبره بالصحيح في ذلك فرآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه فوصله بمال وقال لـه‏:‏ ادع لنـا يـا شيـخ وأمـره بالإنصـراف فلمـا أراد السلطـان صلـاح الديـن إزالـة الدولـة العلويـة والقبض عليهم استفتى في ذلك فأفتاه بذلك جماعة من الفقهاء وكان نجم الدين الخويشاني المذكور من جملتهم فبالغ في الفتيا وصرح في خطه بتعديد مساوئهم وسلب عنهم الإيمان ذكر غير ذلك‏:‏ وفي هذه السنة جرى بين نور الدين وصلاح الدين الوحشة في الباطن فإن صلاح الدين سار ونازل الشوبك وهي للفرنج ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه فلم يبق ما يعوق نور الدين عـن قصد مصر فتركه ولم يفتحه لذلك وبلغ نور الدين ذلك فكتمه وتوحش باطنه لصلاح الدين ولما استقر صلاح الدين بمصر جمع أقاربه وكبراء دولته وقال‏:‏ بلغني أن نور الدين يقصدنا فما الرأي فقال تقي الدين عمر ابن أخيه‏:‏ نقاتله ونصده وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب فأنكـر على تقي الدين ذلك وقال‏:‏ أنا والدكم لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه بل اكتب وقل لنور الدين‏:‏ أنه لو جاءني من عندك إنسان واحد وربط المنديل في عنقي وجرني إليك سارعت إلى ذلك‏.‏

وانفضوا على ذلك ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة وقال له‏:‏ لو قصدنا نور الدين أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله ولكن إذا أظهرنا ذلك يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا ولا ندري ما يكون من ذلك وإذا أظهرنا له الطاعة تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله فكان كما قال‏.‏

وفي هذه السنة توفي الأمير محمد بن مردنيش صاحب شرقي بلاد الأندلس وهي مرسية وبلنسية وغيرهما فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب وسلمـوا إليـه بلادهم فسر يوسف بذلك وتسلمها منهم وتـزوج بأختهـم وأكرمهـم ووصلهـم بالأمـوال الجزيلـة وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مائة ألف مقاتل فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا‏.‏

وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين عساكره وسار إلى لقائهم فمرض خوارزم شاه ورجع مريضاً وأرسل عسكراً مع بعض المقدمين فاقتتلوا مع الخطا وانهزم عسكر خوارزم شاه وأسر مقدمهم ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك‏.‏

وفـي هـذه السنـة اتخـذ نـور الديـن بالشـام الحمـام الهوادي وتسئى المناسيب لنقل البطائق والأخبار‏.‏

وفيها عزل المستضيء وزيره عضد الدين ابن رئيس الرؤساء مكرهاً لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله فلم يمكنه مخالفته‏.‏

وفيها مات يحيى بـن سعـدون بـن تمـام الـأزدي الأندلسـي القرطبـي وكـان إمامـاً فـي القـراءة والنحـو وغيـره مـن العلـوم توفـي بالموصل‏.‏

وفيها توفي أبو محمـد عبـد اللـه بـن أحمد بن أحمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي العالم المشهور في الأدب والنحو التفسير والحديث وكان متضلعاً من العلوم وكان قليل الاكتراث بالمأكل والملبس‏.‏

وفيهـا توفـي نصـر اللـه بـن عبـد اللـه بـن مخلـوف بن علي بن عبد النور بن قلاقس الشاعر المشهور الإسكندري مـدح القاضـي الفاضـل وكـان كثيـر الأسفـار سـار إلـى صقليـة فـي سنـة ثلـاث وخمسين ثم عاد وسار إلى اليمن في سنة خمس وستين وخمسمائة وفي كثرة أسفاره يقول‏:‏ النـاس كثـر ولكـن لا يقد لي إلا مرافقـة الملـاح والحادي

  ثم دخلت سنة ثمـان وستيـن وخمسمائـة

فـي هـذه السنـة توفـي خـوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين وكان قد عاد من قتال الخطا مريضاً ولما مات ملك بعده ابنه الصغير

سلطـان شـاه محمـود ودبـرت والدتـه المملكـة وكـان ابنـه الأكبر علاء الدين تكين مقيماً في جند قد أقطعه أبوه إياها فلما بلغه موت أبيه وولاية أخيه الصغير أنف من ذلـك واستنجـد بالخطـا وسار إلى خيه سلطان شاه وطرده ثم إن سلطان شاه قصد ملوك الأطراف واستنجدهم على أخيه تكش وطرده وكانت الحرب بينهم سجالاً حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة واستقر في ملك خوارزم أخوه تكش بن أرسلان وفي تلك الحروب بين الأخوين قتل المؤيد أي به قتله تكش صبراً وملك بعده ابنه طغانشاه ابن المؤيد أي به‏.‏

وفي هذه السنة سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصرالى النوبة للتغلب عليها فلم تعجبه تلك البلاد فغنم وعاد إلى مصر‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي شمـس الديـن الدكـز بهمـذان وملـك بعـده ابنـه محمد البهلوان ولم يختلف عليه أحد وكان الدكز هذا مملوكاً للكمال السميري وزير السلطان محمود ثم صار للسلطان محمود فلما ولي السلطان مسعود ولـاه وكبـره حتـى صـار ملـك أذربيجـان وغيرهـا مـن بلـاد الجبـل وأصفهان والري وكان عسكره خمسين ألف فارس وكان يخطب في بلاده بالسلطنة للسلطان أرسلان بن طغريل ولم يكن لأرسلان معه حكم وكان الدكز حسن السيرة‏.‏

وفـي هـذه السنـة سـار طائفـة مـن الترك من ديار مصر مع مملوك لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيـوب اسمه قراقوش إلى إفريقية ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصرها مدة ثم فتحها واستولى عليها قراقوش المذكور وملك كثيراً من بلاد إفريقية‏.‏

وفيها غزا أبو يعقوب بن عبد المؤمن بلاد الفرنج في الأندلس‏.‏

وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان واستولى على مرعش وبهنسا ومرزبان وسيواس فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويطلـب الصلـح فقـال نور الدين‏:‏ لا أرضى إلا بأن ترد ملطية على ذي النون ابن الدانشمند وكان قليج أرسلان قد أخذها منه فبذل له سيواس واصطلح معه نور الدين فلما مات نور الدين عاد قليج أرسلان واستولى على سيواس وطرد ابن الدانشمند‏.‏

وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك‏:‏ وحصرها وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا علـى الكرك وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم وهو بالقرب من الكرك فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين فرحل صلاح الدين عن الكرك عائداً إلى مصر وأرسل تحفاً إلى نور الدين واعتذر أن أباه أيوب مريض ويخشى أن يموت فتذهـب مصـر فقبـل نـور الدين عذره في الظاهر وعلم المقصود ولما وصل صلاح الدين إلى مصر وجد أباه أيوب قد مات وكان سبب موت نجم الدين أيوب بن شاذي المذكور أنه ركب بمصر فنفرت به فرسه فوقع وحمل إلى قصره وبقي أياماً ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وكان أيوب خبيراً عاقلاً حسن السيرة كريماً كثير الإحسان‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو نـزار حسـن بـن أبـي الحسـن صافـي بـن عبـد اللـه بـن نزار النحوي وقد ناهز الثمانين وهـو المعـروف بملـك النحـاة وبـرع فـي النحو حتى فاق فيه أهل طبقته وكان معجباً بنفسه ولقب نفسه بملك النحاة وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك وقرأ الفقه على مذهب الشافعي وكذلـك قـرأ الأصوليـن والخلـاف وسافـر إلـى خراسـان وكرمـان وغزنـة ثـم رحل إلى الشام واستوطن دمشق‏.‏